التحرج من رؤية المخطوبة :
فمن
الناس من يتحرج كثيراً في مسألة النظر إلى المخطوبة؛ فإذا أراد الزواج،
وتقدم لخطبة امرأة تحرج من إبداء طلبه رؤيةَ المخطوبة؛ لظنه أن ذلك عيب.
وبعض
الأولياء إذا طلب منه الخاطب رؤيةَ المخطوبة غضب أشد الغضب، وربما وصف
الخاطب بالصفاقة وقلة الحياء، وربما عد رفضه من جملة المناقب التي يفاخر
بها.
فهذا
المظهر دليل جهل تعاني منه بعض المجتمعات الإسلامية؛ حيث تتشدد بعض الأسر
في رؤية المخطوبة، فلا تجيز ذلك إلا ليلة الزواج، فيقدم الزوج على شبه
المجهول، وربما وقع ضحية لمبالغة في وصف المخطوبة، فوضع في ذهنه صورة
مغرقة في الخيال، فإذا دخل ورأى ما رأى هاله المنظر، وكذَّب الخُبْرُ
الخََبَرَ.
وكم من خاطب تقدم لخطبة فتاة دون أن يراها، فلما دخل بها فوجئ بما لم يكن في حسبانه، فوقع الطلاق
وربما كان ذلك في صبيحة ليلة الزواج، وربما وقع الطلاق بعد يومين، وربما جامل مدة من الزمن ثم لم يعد يطيق الصبر.
ولا يلزم من ذلك أن تكون الفتاة دميمة أو غير مقبولة، بل قد تُرفض وهي على درجة من الجمال.
وإنما يروق لفلان مالا يروق لفلان، ولولا اختلاف الأذواق لكسدت السلع في الأسواق، وللناس فيما يعشقون مذاهب
ومن هنا يتبين لنا وجه الخطأ من التحرج في رؤية المخطوبة.
بل
إن هناك ملمحاً آخر، وحكمة أخرى لا يفطن لها كثير من الناس، وهي أن
المرأة قد لا يروقها الخاطب، فلها أن تمانع في قبوله؛ فليست مصلحة النظر
مقتصرة على الخاطب، بل هي متعدية للمخطوبة (ولهن مثل الذي عليهن) (البقرة:228)[1]
إن التوافق سبب لنجاح الزواج، ودوام الألفة، والعكس بالعكس.
ولهذا جاء الشرع المطهر الحكيم بمشروعية الرؤية، وجاءت العلة لذلك أنها أحرى لدوام العشرة.
جاء
في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:"كنت عند رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - فأتاه رجل، فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار فقال
له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"هل نَظَرْت إليها؟ قال : فاذهب فأنظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئاً"[2]
قال قد نظرت إليها"[3].
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : قال "رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا خطب أحدكم فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل"
فخطبت جارية، فكنت أتخبأ لها، حتى رأيت ما دعاني إلى نكاحها وتزوُّجها، فتزوجتها"[4]
]وروى الترمذي في سنته عن الغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أنه خطب امرأة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : "انظر إليها، فأنه أحرى أن يؤدم بينكما"
قال الترمذي : "ومعنى"أحرى أن يؤدم بينكما": أحرى أن تدوم المودة بينكما"[5]
وهذه
الأحاديث تدل على استحباب النظر إلى المخطوبة، فالرسول - صلى الله عليه
وسلم - أمر في تلك الأحاديث بالنظر إلى من يريد الرجل خطبتها، وعلل ذلك -
صلوات الله وسلامه عليه - بقوله : "فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"
والمراد أن الذي يقدم على الزواج وقد رأى المخطوبة، واستراحت نفسه إلى الإقدام على الزواج منها - حري بأن تدوم العشرة بينه وبينها.
وهذا
أولى من أن يراها بعد أن يعقد عقدة عليها، فيفاجأ بأنها غير مناسبة له،
فتجفوها نفسه؛ فترك الخطبة - والحالة هذه - أهون عليه وعليها وعلى أهلهما
من تطليقها بعد زواجه منها[6].
قال
ولي الله الدهلوي - رحمه الله - : "والسبب في استحباب النظر إلى المخطوبة
أن يكون الزوج على رَويَّة، وأن يكون أبعد من الندم الذي يلزمه إن اقتحم
في النكاح ولم يوافقه فلم يُرِدْه، وأسهل للتلافي إن رد، وأن يكون تزوجهما
على شوق ونشاط إن وافقه
والرجل الحكيم لا يلج مولجاً حتى يتبين خيره وشره قَبْلَ وُلُوجه"[7].
وعبارات أهل العلم الذين بينوا حُكْم الرؤية دائرة بين الإباحة والاستحباب
يقول
النووي - رحمه الله - : "وإذا رغب في نكاحها استحب له أن ينظر إليها؛
لئلا يندم، وفي وجه لا يستحب هذا النظر بل هو مباح، والصحيح الأول،
للأحاديث"[8].
وقال المرادي الحنبلي - رحمه الله - :"يجوز النظر إلى المخطوبة وهذا هو المذهب، وقيل : يستحب،وهذا هو الصواب"[9].
وان لم ينظر إليها فلا خلاف بين العلماء في صحة الزواج؛ فإن النظر مباح أو مسنون،ولم يقل أحد بوجوبه 10.
ومما يحسن التنبيه عليه في مسألة النظر ما يلي :
أ- نظر المخطوبة إلى الخاطب : نص الفقهاء إلى أنه يندب للمرأة أن تنظر إلى من تقدم لخطبتها؛ فإنه يعجبها منه ما يعجبه منها[11].
والمصلحة
المرادة من النظر -وهي دوام الألفة - تتحقق بنظر المرأة كما تتحقق بنظر
الرجل؛ فإن المرأة إذا لم تر الرجل إلا بعد الزواج قد تكرهه بمجرد رؤيته،
فيلحقها، ويلحق الزوج عنت ومشقة كان يمكن تلافيها، وذلك برد الخاطب من أول
الأمر
وهذا يوفر الأموال، ويحفظ المشاعر من الآلام، نتيجة الفراق بعد العقد أو الدخول.
ويمكن أن يقال بأن الشارع لم يوجه المرأة إلى النظر إلى الرجل لأن الرجال ظاهرون بارزون في المجتمع، لا يخفون كما تخفى النساء
وبذلك تستطيع المرأة - إن شاءت -أن تنظر إلى الرجل بيسر وسهولة إذا تقدم لخطبتها[12].
ب- هل يلزم استئذان المخطوبة بالنظر إليها؟: الأصل أن يستأذن الخاطب المخطوبة أو أهلها عندما يرغب في رؤيتها.
ولكن الفتاة غير ملزمة بمقابلته لينظر إليها.
وقد أجاز أهل العلم للخاطب أن ينظر إليها من غير أن تعلم أو تأذن.
وهذا ما دل عليه حديث جابر - رضي الله عنه -
قال ابن حجر-رحمه الله - "قال الجمهور : يجوز أن ينظر إليها إذا أراد ذلك بغير أذنها"[13
بل أن بعض الفقهاء يرى أنه يسن النظر إلى المخطوبة، وان لم تأذن هي ولا وليها، وعلل ذلك بأمرين
الأول : أن الشارع أذن في النظر من غير إذنها.
والثاني : الخوف من أن تتزين إن علمت بأنه سينظر إليها، فيفوت غرضه من النظر وهو رؤيتها على طبيعتها[14].
بل
وان هناك مصلحه أخرى وهي أن لا تنكسر نفسها إذا لم يقبلها؛ إذ يمكن أن
يقال لها : إنه عدل عن الزواج، أو نحو ذلك من الاعتذارات التي لا تجرح
شعورها.
قال
النووي - رحمه الله -"ثم مذهبنا، ومذهب مالك، وأحمد، والجمهور أنه لا
يشترط في جواز هذا النظر رضاها، بل له ذلك في غفلتها، ومِنْ غير تقَدُّم
إعلام، لكن قال مالك : أكره نظره في غفلتها؛ مخافةً من وقوع نظره على
عورة، وعن مالك رواية ضعيفة أنه لا ينظر إليها إلا بإذنها، وهذا ضعيف؛ لأن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أذن في ذلك مطلقاً، ولم يشترط استئذانها،
ولأنها تستحي غالباً من الإذن, ولأن في ذلك تغريراً؛ فربما رآها فلم
تعجبه، فيتركها، فتنكسر وتتأذى".[15]
ومن الطرق التي تجدي في مسالة النظر إذا مانعت المرأة أن يتخبأ لها كما صنع جابر - رضي الله عنه -
ومنها
أن يأتي وليها بالخاطب، ويكون هو وإياه في مكان ما في البيت إما في سطح
المنزل، أو من خلال نافذة إحدى الغرف، فإذا مرت المرأة أطلعه عليها، إلى
غير ذلك من الطرق.
ج- ما وقت النظر إلى المخطوبة؟ : والجواب عن ذلك أن أهل العلم قد اختلفوا في الوقت الذي يحل للخاطب فيه النظر إلى المخطوبة، فقيل : حين تأذن المخطوبة في عقد النكاح.
وقيل : عند ركون كل واحد منهما إلى صاحبه، وذلك حين تحرم الخطبة على الخطبة[16].
والصحيح
-إن شاء الله -أن وقت النظر يكون قبل الخطبة، وبعد العزم على النكاح، لأنه
قبل العزم لا حاجة له إلى النظر، وبعد الخطبة قد يفضي الحال إلى الترك
فيشق عليها.
وهذا ما رجحه النووي، والشربيني، وصاحب كفاية الأخيار[17]
د- ما حدود النظر؟: أما حدود ما ينظر من المخطوبة فلا يختلف العلماء القائلون بإباحة النظر أو استحبابه أنه يجوز النظر إلى الوجه والكفين.
وفي اليدين ما يستدل به على خِصَب البدن"[18]
وهناك من قال : ينظر إلى الرقبة والساقين[19].
وهناك من قال : ينظر إليها كلها[20]
والقول الراجح هو قول من قصر النظر على الوجه والكفين
]قال النووي - رحمه الله - "وقال داود : ينظر إلى جميع بدنها، وهذا خطأ ظاهر منابذ لأصول السنة والإجماع"[21].
يقول
الدكتور عمر الأشقر - حفظه الله - "والقول الذي نرجحه قول من قصر النظر
على الوجه والكفين، فالنظر إلى الوجه هو الذي يعطي الناظر انطباعاً
بالموافقة أو الرفض، ولا يكاد أحد يطيق نقل هذا الانطباع بطريق الوصف.
أما غير ذلك من الأوصاف فيمكن أن يستفسر عنها، وتنقلها له أمه أو أخته.
ويدلنا على صحة هذا القول أن الناظر وإن كان مأموراً بالنظر - إلا أنه لم يأتِ نص يبيح للمرأة المخطوبة أن تخلع لباسها للخاطب"[22].
إلى
أن قال : "ومراد الذين قالوا بجواز النظر إلى جميع الجسد أي في حال نظر
الخاطب إليها وهي لا تعلم بذلك، فإنه يبعد أن يجيز عالم للمرأة أن تتعرى
للخاطب كي ينظر إليها، فإن وجد من يقول بذلك فإن قوله مردود عليه، غير
مقبول منه"[23]
[أما
حدود نظر المخطوبة للخاطب فقد اختلف فيه أهل العلم، والصواب أنه إذا وقع
نظرها على أكثر من الوجه والكفين لم يحرم، فعورة الرجل ما بين السرة
والركبة[24].
والخلاصة
أن النظر مهم، وأدعى لتوافق الزوجين، وليس معنى هذا أن الإخفاق هو مصير
الزواج الذي لا يحصل قبله النظر، ولكن ذلك سبب من الأسباب، والإنسان مأمور
بفعل السبب، والله وحده هو الموفق