ولاً : الحرص على تطبيق الشريعة :
لم تكن مقاليد الحكم في دولة نور الدين
أداة لخدمة أهداف الطبقة الحاكمة، كما هو الحال في كثير من الدول
والحكومات، ولا لتحقيق وحماية مصالح حفنة من البيروقراطيين، كما أنها لم
تكن مجرد ذريعة عملية " براغماتية" لتسيير الشؤون المادية المنفعية الصرفة
للدولة فحسب، بل إن هنالك أهدافاً أكبر بكثير، وقيماً ومباديء أبعد مدى،
كان على أجهزة الدولة أن تسعى إلى تحقيقها في واقع الحياة، وأن تبذل ما
تمتلكه من قدرات وخبرات للسير بالأمة قدما صوب آفاقها الرحبة الشاملة
إن تنفيذ شريعة الإسلام وقيمه ومبادئه في واقع الحياة، وبعث المجتمع
الإسلامي كان هو الهدف المركزي لدولة نور الدين محمود فهي إذن دولة ملتزمة
وليست صاحبة أغراض منفعية وكسب واحتراف وقد أكد نور الدين على هذه الحقيقة
في أكثر من مناسبة وحشد لها الكثير من الأقوال والتأكيدات والتصريحات ودعا
بحماس منقطع النظير إلى تحقيقها، وسعى – فعلاً – إلى أن تنتقل هذه الدعوة
– رغم المصاعب والعقبات – من ميدان الفكر إلى ميدان التطبيق
===========
قال : "ونحن نحفظ الطرق من لصّ وقاطع طريق، والأذى الحاصل منها قريب، أفلا نحفظ الدين ونمنع عنه ما يناقضه، وهو الأصل"
===========
وقال : "نحن شحنللشريعة نمضي أوامرها "
===========
وقال مخاطباً أحد ولاته :" انظر في العوادي وما يجري فيها من الدعاوي، وميز بين المحاسن، والمساوئ، وأحمل الأمور فيها على الشريعة" .
===========
وقال متحدثاً إلى اثنين من كبار موظفيه : "والله
إني أفكر في وال وليته أمور المسلمين فلم يعدل فيهم أو فيمن يظلم المسلمين
من أصحابي وأعواني وأخاف المطالبة بذلك (أمام الله). فبالله عليكم، وإلا
فخبزي عليكم حرام، ولا تريان قصة مظلوم لا ترفع إلى، أو تعلمان مظلمة إلا
وأعلماني بها وارفعاها إلي"
===========
وقال فيما يلخص موقفه الملتزم بعبارة تثير الإعجاب : "إني جئت هاهنا امتثالاً لأمر الشرع "
===========
يقول ابن الأثير : "كان نور الدين يعظم الشريعة المطهرة ويقف عند أحكامها".
===========
ويقول
في مكان آخر : "وعلى الحقيقة فهو الذي جدد للملوك اتباع سنة العدل
والإنصاف، وترك المحرمات من المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك، فإنهم كانوا
قبله كالجاهلية، همة أحدهم بطنه وفرجه لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً،
حتى جاء الله بدولته فوقف مع أوامر الشرع ونواهيه وألزم بذلك أتباعه
وذويه، فاقتدى به غيره منهم، واستحيوا أن يظهر عنهم ما كانوا يفعلونه" .
===========
ويقول أبو شامة : سمعت أبا شداد يقول : "كان أشهى ما إليه كلمة حق يسمعها، أو إرشاد إلى سنة يتبعها" .
===========
ويقول ابن كثير : "كان يقوم في أحكامه بالمعدلة الحسنة واتباع الشرع المطهر ... وأظهر ببلاده السنة وأمات البدعة"
وكان لا يقدم على إجراء ما عام أو
شخصي، إلا بعد أن يستفتي الفقهاء الذين كانوا أشبه بمجلس شيوخ تشريعي أو
هيئة استشارية تستلهم في قراراتها النهائية مؤشرات الشريعة الغراء بحيث لا يقدم أحد في الدولة على عمل أو إجراء إلا ويجيء ذلك العمل منسجماً مع فكر الدولة وعقيدتها وشريعتها
ولم يدع نور الدين منكراً يسود جانباً من جوانب الحياة الاجتماعية إلا عمل
على إزالته وحث موظفيه على التنفيذ الفوري لأوامره بهذا الصدد .. لقد
قالها يوماً أحد كبار الشيوخ – برهان الدين البلخي – وجهاً لوجه أمام نور
الدين : "أتريدون أن تنصروا وفي عسكركم الخمور والطبول والزمور ؟ فلا والله،
وما كان نور الدين بحاجة إلى من يقول له هذا ولكنها الذكرى التي تهز
الفؤاد وتقود إلى مزيد من الإنجاز الذي يبني الجبهة الداخلية النظيفة،
المتينة القديرة على مواصلة المهمة القتالية التي قادها نور الدين ..
===========
لقد بلغ من التزام نور الدين بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام حداً في غاية الروعة والجمال وشدة المحبة لرسول الإسلام،
فقد حكى الشيخ أبو البركات أنه حضر مع عمه الحافظ أبي القاسم مجلس نور
الدين لسماع شيء من الحديث، فمّر أثناء الحديث أن النبي صلى الله عليه
وسلم خرج متقلداً سيفاً، فاستفاد نور الدين أمراً لم يكن يعرفه وقال كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقلد السيف؛ يشير إلى التعجب من عادة الجند
إذ هم على خلاف ذلك لأنهم يربطونه بأوساطهم فلما كان من الغد مر، وأنا تحت
القلعة والناس مجتمعون ينتظرون ركوب السلطان، فوقفنا ننظر إليه، فخرج من
القلعة وهو متقلد السيف وجميع عسكره كذلك . رحم الله الملك العادل نور الدين
===========
إن آثار تحكيم شرع الله في الشعوب التي
نفذت أوامر الله ونواهيه ظاهرة بينة لدارس التاريخ، وإن تلك الآثار الطيبة
قد رأينها في دراستنا لدولة الخلفاء الراشدين، ودولة عمر بن عبد العزيز،
ودولة نور الدين زنكي، ودولة يوسف بن تاشفين، ودولة محمد الفاتح وهي من
سنن الله الجارية والماضية لاتتبدل ولا تتغير، فأي قيادة مسلمة تسعى لهذا
المطلب الجليل والعمل العظيم مخلصة لله في قصدها، مستوعبة لسنن الله في
الأرض، فإنها تصل إليه ولو بعد حين، وترى آثار ذلك التحكيم على أفرادها
ومجتمعاتها ودولها وحكامها.
إن الغرض من الأبحاث التاريخية الإسلامية
الاستفادة الجادة من أولئك الذين سبقونا بالإيمان في جهادهم وعلمهم
وتربيتهم، وسعيهم الدؤوب لتحكيم شرع الله، وأخذهم بسنن الله وفقهه ومراعاة
التدرج والمرحلية والارتقاء بالشعوب نحو الكمالات الإسلامية المنشودة. إن
التوفيقات الربانية العظيمة في تاريخ أمتنا يجريها الله تعالى على يدي من
أخلص لربه ودينه، وأقام شرعه وقصد رضاه وجعله فوق كل اعتبار .
=========== ===========
ثانياً : بناء دولة العقيدة على أصول أهل السنة
كان نور الدين رجل عقيدة وكان أظهر ما في خصائصه هو إيمانه الإسلامي العميق ،قال عنه ابن كثير :
"أظهر نور الدين ببلاده السنة وأمات البدعة وأمر بالتأذين بحي على الصلاة
حي على الفلاح ولم يكن يؤذن بهما في دولتي أبيه وجده، وإنما كان يؤذن بحي
على خير العمل، لأن شعار الرفض كان ظاهراً "
===========
وكان يعاقب المبتدعة بأشد العقوبات : قيل إن رجلاً أظهر شيئاً من التشبيه،
فأركب على حماره، وأمر بصفعه وطيف به في البلد ونفاه إلى حّران ، وكان نور الدين يتحرى السنة في أمورها كلها ومن أعظم إنجازات دولته هو إسقاط الدولة الفاطمية.
=========== ===========
دور نور الدين في دعم المذهب السني :
مهدت مدارس نظام الملك رحمه الله
السبيل ويسرته أمام نور الدين والأيوبيين، فأضحى الطريق معبداً لتحقيق
الهدف الذي أنشئت النظاميات من أجله وهو العمل على مناهضة الفكر الشيعي ودعم المذهب السني
وقد عقد نور الدين العزم على صبغ دولته بالكتاب والسنة ومواجهة الفكر
الشيعي الرافضي والذي كان محصوراً في حلب ودمشق ومصر وبذل جهوداً كبيرة
ليمكن لمذهب السنة إلا أن هذه الجهود كانت تختلف في طبيعتها باختلاف هذه
البيئات الثلاث.
1- جهود نور الدين في حلب :
أخذ نفوذ الشيعة في حلب يظهر بوضوح في أواخر أيام سيف الدولة الحمداني (333 - 356ﻫ/944
- 967) لأن بني حمدان كانوا يعتنقون مذهب الشيعة الإمامية فيسروا لدعاة
هذا المذهب الطريق لنشر الدعوة فيها ثم عملوا بعد ذلك على إزالة شعائر
السنة وإحلال شعائر الشيعة محلها، فقام نور الدين محمود باتخاذ خطوات
سياسية واكبتها في الوقت نفسه خطوات فكرية هامة : ففي رجب من عام 543ﻫ/1148م
أي بعد عامين تقريباً من استقراره في حلب رأيناه يأمر الشيعة بترك حي على
خير العمل في الآذان وينكر عليهم إنكاراً شديداً جهرهم بسب صحابة رسول
الله صلى الله عليه وسلم ويحذرهم من مغبة العود إلى ما نُهوا عنه، فعظم
هذا الأمر على الإسماعيلية، وأهل التشيع، وضاقت له صدورهم وهاجوا وماجوا
ثم سكنوا وأحجموا للخوف من السطوة النورية المشهورة، والهيبة المحذورة ([23])،
كما قام نور الدين بخطوة أخرى وهي : إبعاد بعض زعماء الشيعة عن حلب، ممن كان يخشى خطرهم، وكان على رأس المبعدين والد المؤرخ ابن أبي طي ([24])
وواكبت هذه الخطوة السياسية خطوة فكرية هامة : وهي إنشاء مدرستين سنيتين كبيرتين : إحداهما للحنفية وهي المدرسة الحلاوية التي أنشأها نور الدين في العام ذاته 543ﻫ/1148م
وأسند التدريس فيها إلى برهان الدين أبي الحسن علي بن الحسن البلخي حيث
استدعاه نور الدين من دمشق يذكر بعض المؤرخين أن البلخي جلس تحت منارة
المسجد وأمر بعض الفقهاء بالصعود إليها وقت الأذان وقال لهم :" من لم يؤذن الأذان المشروع فألقوه من المنارة على رأسه، فأذنوا الأذان المشروع" . وكان المدرسة الثانية التي أنشأها نور الدين في حلب هي المدرسة الِنفَّريَّة النورية، وقد أنشأها (سنة 44ﻫ/1149م) لتدريس المذهب الشافعي وتولى التدريس بها قطب الدين مسعود بن محمد النيسابوري ت 578ﻫ ، 1182م
===========
الاهتمام بالمذهب الشافعي في حلب :
كان نور الدين محمود يتبع مذهب الإمام أبي حنيفة إلا أنه أنشأ للشافعية في
حلب ثلاث مدارس هي : النفرية والعصرونية والشعيبية وأسند الأولى إلى استاذ
من أساتذة النظاميات، والثانية إلى تلميذ من أنبغ من خرجت نظامية بغداد
وهو شرف الدين بن أبي عصرون، وفي الوقت الذي لم ينشئ فيه لأهل مذهبه إلا
مدرسة واحدة وهي الحلاوية السالفة الذكر. لاعتقاده بأن علماء المدارس
النظامية لهم القدرة على الإحياء السني، وقمع شبهات المبتدعة من الشيعة
الرافضة أكثر من غيرهم وذلك بسبب خبرة المدارس النظامية وخريجيها على
مواجهة المد الباطني الشيعي وقدرتها على كشف باطلها بأسلوب علمي رصين
===========
الاستفادة من جهود علماء السنة :
لم تقف جهود نور الدين في حلب عند حد العناية بإنشاء المدارس الحنفية والشافعية، بل إنه كان حريصاً على أن يستفيد من جهود علماء السنة على اختلاف مذاهبهم في محاربة الفكر الشيعي، والتمكين لمذهب السنة
ولذلك كان يعتني أيضاً بعلماء المالكية والحنابلة وفقهائهم، فأوقف زاويتين
بالمسجد الجامع في حلب، وخصص إحداهما لفقهاء الحنابلة والأخرى للمالكية
وبذلك نجح نور الدين في التخفيف من حدة الصراع المذهبي بين المذاهب السنية
المختلفة وتوحيدها في جبهة واحدة ووفقه الله في توحيد جهود علماء السنة لمحاربة الفكر الشيعي .
===========
دور تدريس الحديث
اهتم نور الدين محمود بتدريس الحديث الشريف وكانت من ضمن مشروعه في حركة
الإحياء السني ومناهضة الفكر الشيعي، ذلك أن الشيعة لا يعترفون بصحة
الحديث إلا إذا كان مروياً عن آل البيت وكان من الطبيعي أن ينتهي بهم هذا
الموقف – المجانبة للحق والعدل والصواب – إلى الطعن في صحاح السنة ويضاف
إلى ذلك أن العناية بالحديث الشريف وتشييد معاهد دراسية خاصة به كان سمة
من سمات هذه الفترة التي حكم فيها نور الدين والأيوبيون.
===========
وقد أثمرت جهود نور الدين في حلب
وتسابق أمراءه وأعيان دولته وخلفاؤه من بعده إلى إنشاء المؤسسات العلمية
حتى غدت حلب بعد فترة يسيرة نسبياً مركزاً من مراكز الثقافة السنية بعد أن
كانت وكراً من أوكار الشيعة وقد أحصى المؤرخ عز الدين شداد ت 684ﻫ/1285م
مدارس حلب في أيامه فوجدها أربعاً وخمسين مدرسة موزعة بين المذاهب الفقهية
الأربعة منها : إحدى وعشرون للشافعية، واثنتان وعشرون للحنفية، وثلاث
للمالكية والحنابلة، وثماني دور للحديث الشريف بالإضافة إلى إحدى وثلاثين
خانقاه للصوفية ([30]) وقد أتت هذه المؤسسات العلمية ثمارها المرجوة إذ انقرض المذهب الإسماعيلي الباطني في حلب في حدود عام 600ﻫ/1203م
وأخفى الشيعة الإمامية معتقداتهم حتى انتهى بهم الأمر إلى أن أخذو يتنكرون
وبأفعال السنة يتظاهرون ويذكر أحد المؤرخين المعاصرين من أبناء حلب : أن
الشيعة انقرضوا من المدينة وتلاشوا بالمرة، ولم يبق منهم غير عدة بيوت
يقذفهم بعض الناس بالرفض والتشيع، مع أن ظاهرهم على كمال الاستقامة
وموافقة السنة وذلك بفضل الله ثم جهود المصلح
الكبير نور الدين وخلفائه الذين اقتدوا به في الإكثار من المدارس السنية
وتعيين الأساتذة الأكفاء لها، والإنفاق عليها بسخاء حتى تراجع التشيع من
هذه المدينة وأصبحت السيادة فيها لمذهب أهل السنة وهذا يدل على أهمية التربية الفكرية والثقافية في التمكين للإسلام الصحيح في نفوس الناس.
===========
جهود نور الدين في الإحياء السني في دمشق :
استولى نور الدين على دمشق في صفر من عام 549ﻫ/1154م
ومن ثم واصل جهوده لتنفيذ خطته في دعم العقيدة السنية وكان منهجه في دعم
المذهب السني في دمشق قد خضع لزيادة في أعبائه العسكرية حيث أصبح مجاوراً
لمملكة بيت المقدس أكبر المراكز الصليبية قوة وأخطرها شأناً ولذلك رأينا
خطة نور الدين في دمشق تسير في ثلاث اتجاهات رئيسي: الاتجاه الأول :
تركز في العناية بإنشاء المدارس السنية وربط الصوفية، غير أن مدارسه في
دمشق اهتمت بفقهاء المذهبين : الحنفي والشافعي، وكانت عناية نور الدين
بمدارس الفريق الأول أكثر، استجابة لميل طبيعي إلى هذا المذهب الذي كان
يعتنقه دون تعصب، فأنشأ المدرسة النورية الكبرى، وجلعها وقفاً على الحنفية
وأول من درس بها شيخ الحنفية بدمشق : بهاء الدين بن عسكر المعروف بابن
العقادة ت (596/1199م وأما الاتجاه الثاني :
فكان منصباً على العناية بالحديث الشريف دراسة وتدريساً، ومن ثم بنى أكبر
دار للحديث في دمشق، ووكل أمر مشيختها إلى أحد أعلام عصره، وهو الحافظ
الكبير : تقي الدين أبو القاسم على ابن الحسين بن هبة الله بن عساكر ت (571ﻫ/1175م) وكان عمدة في الحديث والفقه وعلم الكلام،. الاتجاه الثالث :
كان موجهاً إلى العناية بتربية النشء تربية سنية فإن نور الدين بني في
دمشق وغيرها من البلاد مكاتب للأيتام وأجرى عليهم وعلى معلميهم النفقات
الوفيرة، كما خصص للأيتام الذين يقرأون القرآن – بالمساجد التي شيدها –
أوقافاً – معلومة يذكر ابن كثير : أن نور الدين وقف وقفاً : على من يعلم الأيتام الخط والقراءة، وجعل لهم نفقة وكسوة .